الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله (باب نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة أخيرا) يعني تزويج المرأة إلى أجل فإذا انقضى وقعت الفرقة. وقوله في الترجمة " أخيرا " يفهم منه أنه كان مباحا وأن النهي عنه وقع في آخر الأمر. وليس في أحاديث الباب التي أوردها التصريح بذلك، لكن قال في آخر الباب " أن عليا بين أنه منسوخ " وقد وردت عدة أحاديث صحيحة صريحة بالنهي عنها بعد الإذن فيها، وأقرب ما فيها عهدا بالوفاة النبوية ما أخرجه أبو داود من طريق الزهري قال " كنا عند عمر بن عبد العزيز فتذاكرنا متعة النساء، فقال رجل يقال له ربيع بن سبرة " أشهد على أبي أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حجة الوداع، وسأذكر الاختلاف في حديث سبرة هذا - وهو ابن معبد - بعد هذا. الحديث: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُتْعَةِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ الشرح: قوله (أخبرني الحسن بن محمد بن علي) أي ابن أبي طالب، وأبوه محمد هو الذي يعرف بابن الحنفية، وأخوه عبد الله بن محمد. أما الحسن فأخرج له البخاري غير هذا، منها ما تقدم له في الغسل من روايته عن جابر، ويأتي له في هذا الباب آخر عن جابر وسلمة بن الأكوع، وأما أخوه عبد الله بن محمد فكنيته أبو هاشم وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، ووثقه ابن سعد والنسائي والعجلي، وقد تقدمت له طريق أخرى في غزوة خيبر من كتاب المغازي، وتأتي أخرى في كتاب الذبائح، وأخرى في ترك الحيل؛ وقرنه في المواضع الثلاثة بأخيه الحسن، وذكر في التاريخ عن ابن عيينة عن الزهري " أخبرنا الحسن وعبد الله ابنا محمد بن علي وكان الحسن أوثقهما " ولأحمد عن سفيان " وكان الحسن أرضاهما إلى أنفسنا، وكان عبد الله يتبع السبئية " ا هـ والسبئية بمهملة ثم موحدة ينسبون إلى عبد الله بن سبأ، وهو من رؤساء الروافض، وكان المختار بن أبي عبيد على رأيه، ولما غلب على الكوفة وتتبع قتلة الحسين فقتلهم أحبته الشيعة ثم فارقه أكثرهم لما ظهر منه من الأكاذيب، وكان من رأي السبئية موالاة محمد بن علي بن أبي طالب. وكانوا يزعمون أنه المهدي وأنه لا يموت حتى يخرج في آخر الزمان. ومنهم من أقر بموته وزعم أن الأمر بعده صار إلى ابنه أبي هاشم هذا. ومات أبو هاشم في آخر ولاية سليمان بن عبد الملك سنة ثمان أو تسع وتسعين. قوله (عن أبيهما) في رواية الدار قطني في " الموطآت " من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري " عن مالك عن الزهري أن عبد الله والحسن ابني محمد أخبراه أن أباهما محمد بن علي بن أبي طالب أخبرهما". قوله (أن عليا قال لابن عباس) سيأتي بيان تحديثه له بهذا الحديث في ترك الحيل بلفظ " أن عليا قيل له أن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأسا " وفي رواية الثوري ويحيى بن سعيد كلاهما عن مالك عند الدار قطني " أن عليا سمع ابن عباس وهو يفتي في متعة النساء فقال: أما علمت " وأخرجه سعيد بن منصور عن هشيم " عن يحيى بن سعيد عن الزهري بدون ذكر مالك ولفظه " أن عليا مر بابن عباس وهو يفتي في متعة النساء أنه لا بأس بها"، ولمسلم من طريق جويرية عن مالك يسنده أنه " سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان إنك رجل تائه " وفي رواية الدار قطني من طريق الثوري أيضا " تكلم علي وابن عباس في متعة النساء فقال له علي: إنك امرؤ تائه " ولمسلم من وجه آخر أنه " سمع ابن عباس يلين في متعة النساء فقال له: مهلا يا ابن عباس " ولأحمد من طريق معمر " رخص في متعة النساء". قوله (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة) في رواية أحمد عن سفيان نهى عن نكاح المتعة. قوله (وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر) هكذا لجميع الرواة عن الزهري " خيبر " بالمعجمة أوله والراء آخره إلا ما رواه عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد عن مالك في هذا الحديث فإنه قال " حنين " بمهملة أوله ونونين أخرجه النسائي والدار قطني ونبها على أنه وهم تفرد به عبد الوهاب، وأخرجه الدار قطني من طريق أخرى عن يحيى بن سعيد فقال خيبر على الصواب، وأغرب من ذلك رواية إسحاق بن راشد عن الزهري عنه بلفظ " نهى في غزوة تبوك عن نكاح المتعة " وهو خطأ أيضا. قوله (زمن خيبر) الظاهر أنه ظرف للأمرين، وحكى البيهقي عن الحميدي أن سفيان بن عيينة كان يقول: قوله " يوم خيبر " يتعلق بالحمر الأهلية لا بالمتعة، قال البيهقي: وما قاله محتمل يعني في روايته هذه، وأما غيره فصرح أن الظرف يتعلق بالمتعة، وقد مضى في غزوة خيبر من كتاب المغازي ويأتي في الذبائح من طريق مالك بلفظ " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية " وهكذا أخرجه مسلم من رواية ابن عيينة أيضا، وسيأتي في ترك الحيل في رواية عبيد الله بن عمر عن الزهري " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر " وكذا أخرجه مسلم وزاد من طريقه " فقال مهلا يا ابن عباس " ولأحمد من طريق معمر بسنده أنه " بلغه أن ابن عباس رخص في متعة النساء، فقال له: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية " وأخرجه مسلم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري مثل رواية مالك، والدار قطني من طريق ابن وهب عن مالك ويونس وأسامة بن زيد ثلاثتهم عن الزهري كذلك، وذكر السهيلي أن ابن عيينة رواه عن الزهري بلفظ " نهى عن أكل الحمر الأهلية عام خيبر، وعن المتعة بعد ذلك أو في غير ذلك اليوم " ا هـ وهذا اللفظ الذي ذكره لم أره من رواية ابن عيينة، فقد أخرجه أحمد وابن أبي عمر والحميدي وإسحاق في مسانيدهم عن ابن عيينة باللفظ الذي أخرجه البخاري من طريقه، لكن منهم من زاد لفظ " نكاح " كما بينته، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وإبراهيم بن موسى والعباس بن الوليد، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب جميعا عن ابن عيينة بمثل لفظ مالك، وكذا أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة لكن قال " زمن " بدل " يوم " قال السهيلي: ويتصل بهذا الحديث تنبيه على إشكال لأن فيه النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر، وهذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر، قال: فالذي يظهر أنه وقع تقديم وتأخير لفظ الزهري، وهذا الذي قاله سبقه إليه غيره في النقل عن ابن عيينة، فذكر ابن عبد البر من طريق قاسم بن أصبغ أن الحميدي ذكر عن ابن عيينة أن النهي زمن خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأما المتعة فكان في غير يوم خيبر، ثم راجعت " مسند الحميدي " من طريق قاسم بن أصبغ عن أبي إسماعيل السلمي عنه فقال بعد سياق الحديث " قال ابن عيينة: يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، ولا يعني نكاح المتعة " قال ابن عبد البر: وعلى هذا أكثر الناس. وقال البيهقي: يشبه أن يكون كما قال لصحة الحديث في أنه صلى الله عليه وسلم رخص فيها بعد ذلك ثم نهى عنها، فلا يتم احتجاج علي إلا إذا وقع النهي أخيرا لتقوم به الحجة على ابن عباس. وقال أبو عوانة في صحيحه سمعت أهل العلم يقولون: معنى حديث علي أنه نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر، وأما المتعة فسكت عنها وإنما نهى عنها يوم الفتح ا هـ. والحامل لهؤلاء على هذا ما ثبت من الرخصة فيها بعد زمن خيبر كما أشار إليه البيهقي، لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن عليا لم تبلغه الرخصة فيها يوم الفتح لوقوع النهي عنها عن قرب كما سيأتي بيانه، ويؤيد ظاهر حديث على ما أخرجه أبو عوانة وصححه من طريق سالم بن عبد الله " أن رجلا سأل ابن عمر عن المتعة فقال: حرام. فقال: إن فلانا يقول فيها. فقال: والله لقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمها يوم خيبر وما كنا مسافحين " قال السهيلي: وقد اختلف في وقت تحريم نكاح المتعة فأغرب ما روي في ذلك رواية من قال في غزوة تبوك، ثم رواية الحسن أن ذلك كان في عمرة القضاء، والمشهور في تحريمها أن ذلك في غزوة الفتح كما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه وفي رواية عن الربيع أخرجها أبو داود أنه كان في حجة الوداع، قال ومن قال من الرواة كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح ا هـ. فتحصل مما أشار إليه ستة مواطن: خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم الفتح، ثم أوطاس، ثم تبوك، ثم حجة الوداع. وبقي عليه حنين لأنها وقعت في رواية قد نبهت عليها قبل، فأما أن يكون ذهل عنها أو تركها عمدا لخطأ رواتها، أو لكون غزوة أوطاس وحنين واحدة. فأما رواية تبوك فأخرجها إسحاق بن راهويه وابن حبان من طريقه من حديث أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بثنية الوداع رأى مصابيح وسمع نساء يبكين، فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا رسول الله، نساء كانوا تمتعوا منهن. فقال: هدم المتعة النكاح والطلاق والميراث " وأخرجه الحازمي من حديث جابر قال " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلي الشام جاءت نسوة قد كنا تمتعنا بهن يطفن برحالنا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، قال فغضب وقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ فسميت ثنية الوداع". وأما رواية الحسن وهو البصري فأخرجها عبد الرزاق من طريقه وزاد " ما كانت قبلها ولا بعدها " وهذه الزيادة منكرة من راويها عمرو بن عبيد، وهو ساقط الحديث، وقد أخرجه سعيد بن منصور من طريق صحيحة عن الحسن بدون هذه الزيادة. وأما غزوة الفتح فثبتت في صحيح مسلم كما قال: وأما أوطاس فثبتت في مسلم أيضا من حديث سلمة بن الأكوع. وأما حجة الوداع فوقع عند أبي داود من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه. وأما قوله لا مخالفة بين أوطاس والفتح ففيه نظر، لأن الفتح كان في رمضان ثم خرجوا إلى أوطاس في شوال، وفي سياق مسلم أنهم لم يخرجوا من مكة حتى حرمت، ولفظة " إنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح، فأذن لنا في متعة النساء، فخرجت أنا ورجل من قومي - فذكر قصة المرأة، إلى أن قال - ثم استمتعت منها، فلم أخرج حتى حرمها " وفي لفظ له " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بين الركن والباب وهو يقول " بمثل حديث ابن نمير وكان تقدم في حديث ابن نمير أنه قال: يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة " وفي رواية " أمرنا بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثم لم نخرج حتى نهانا عنها " وفي رواية له " أمر أصحابه بالتمتع من النساء - فذكر القصة قال - فكن معنا ثلاثا، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقهن " وفي لفظ " فقال إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة " فأما أوطاس فلفظ مسلم " رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها " وظاهر الحديثين المغايرة، لكن يحتمل أن يكون أطلق على عام الفتح عام أوطاس لتقاربهما، ولو وقع في سياقه أنهم تمتعوا من النساء في غزوة أوطاس لما حسن هذا الجمع، نعم ويبعد أن يقع الإذن في غزوة أوطاس بعد أن يقع التصريح قبلها في غزوة الفتح بأنها حرمت إلى يوم القيامة، وإذا تقرر ذلك فلا يصح من الروايات شيء بغير علة إلا غزوة الفتح. وأما غزوة خيبر وإن كانت طرق الحديث فيها صحيحة ففيها من كلام أهل العلم ما تقدم. وأما عمرة القضاء فلا يصح الأثر فيها لكونه من مرسل الحسن ومراسيله ضعيفة لأنه كان يأخذ عن كل أحد، وعلى تقدير ثبوته فلعله أراد أيام خيبر لأنهما كانا في سنة واحدة في الفتح وأوطاس سواء. وأما قصة تبوك فليس في حديث أبي هريرة التصريح بأنهم استمتعوا منهن في تلك الحالة، فيحتمل أن يكون ذلك وقع قديما ثم وقع التوديع منهن حينئذ والنهي، أو كان النهي وقع قديما فلم يبلغ بعضهم فاستمر على الرخصة، فلذلك قرن النهي بالغضب لتقدم النهي في ذلك، على أن في حديث أبي هريرة مقالا، فإنه من رواية مؤمل بن إسماعيل عن عكرمة بن عمار وفي كل منهما مقال. وأما حديث جابر فلا يصح فإنه من طريق عباد بن كثير وهو متروك. وأما حجة الوداع فهو اختلاف على الربيع بن سبرة، والرواية عنه بأنها في الفتح أصح وأشهر، فإن كان حفظه فليس في سياق أبي داود سوى مجرد النهي، فلعله صلى الله عليه وسلم أراد إعادة النهي ليشيع ويسمعه من لم يسمعه قبل ذلك. فلم يبق من المواطن كما قلنا صحيحا صريحا سوى غزوة خيبر وغزوة الفتح، وفي غزوة خيبر من كلام أهل العلم ما تقدم، وزاد ابن القيم في " الهدي " أن الصحابة لم يكونوا يستمتعون باليهوديات، يعني فيقوى أن النهي لم يقع يوم خيبر أو لم يقع هناك نكاح متعة، لكن يمكن أن يجاب بأن يهود خيبر كانوا يصاهرون الأوس والخزرج قبل الإسلام فيجوز أن يكون هناك من نسائهم من وقع التمتع بهن فلا ينهض الاستدلال بما قال، قال الماوردي في " الحاوي ": في تعيين موضع تحريم المتعة وجهان أحدهما أن التحريم تكرر ليكون أظهر وأنشر حتى يعلمه من لم يكن علمه لأنه قد يحضر في بعض المواطن من لا يحضر في غيرها، والثاني أنها أبيحت مرارا، ولهذا قال في المرة الأخيرة " إلى يوم القيامة " إشارة إلى أن التحريم الماضي كان مؤذنا بأن الإباحة تعقبه، بخلاف هذا فإنه تحريم مؤبد لا تعقبه إباحة أصلا، وهذا الثاني هو المعتمد، ويرد الأول التصريح بالأذن فيها في الموطن المتأخر عن الموطن الذي وقع التصريح فيه بتحريمها كما في غزوة خيبر ثم الفتح. وقال النووي: الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين فكانت مباحة قبل خيبر ثم حرمت فيها ثم أبيحت عام الفتح وهو عام أوطاس ثم حرمت تحريما مؤبدا، قال: ولا مانع من تكرير الإباحة. ونقل غيره عن الشافعي أن المتعة نسخت مرتين، وقد تقدم في أوائل النكاح حديث ابن مسعود في سبب الإذن في نكاح المتعة وأنهم كانوا إذا غزوا اشتدت عليهم العزبة فأذن لهم في الاستمتاع فلعل النهي كان يتكرر في كل مواطن بعد الإذن، فلما وقع في المرة الأخيرة أنها حرمت إلى يوم القيامة لم يقع بعد ذلك إذن والله أعلم. والحكمة في جمع علي بين النهي عن الحمر والمتعة أن ابن عباس كان يرخص في الأمرين معا، وسيأتي النقل عنه في الرخصة في الحمر الأهلية في أوائل كتاب الأطعمة، فرد عليه علي في الأمرين معا وأن ذلك يوم خيبر، فإما أن يكون على ظاهره وأن النهي عنهما وقع في زمن واحد. وإما أن يكون الإذن الذي وقع عام الفتح لم يبلغ عليا لقصر مدة الإذن وهو ثلاثة أيام كما تقدم. والحديث في قصة تبوك على نسخ الجواز في السفر لأنه نهى عنها في أوائل إنشاء السفر مع أنه كان سفرا بعيدا والمشقة فيه شديدة كما صرح به في الحديث في توبة كعب، وكان علة الإباحة وهي الحاجة الشديدة انتهت من بعد فتح خيبر وما بعدها والله أعلم. والجواب عن قول السهيلي أنه لم يكن في خيبر نساء يستمتع بهن ظاهر مما بينته من الجواب عن قول ابن القيم لم تكن الصحابة يتمتعون باليهوديات، وأيضا فيقال كما تقدم لم يقع في الحديث التصريح بأنهم استمتعوا في خيبر، وإنما فيه مجرد النهي، فيؤخذ منه أن التمتع من النساء كان حلالا وسبب تحليله ما تقدم في حديث ابن مسعود حيث قال " كنا نغزو وليس لنا شيء - ثم قال - فرخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب " فأشار إلى سبب ذلك وهو الحاجة مع قلة الشيء، وكذا في حديث سهل بن سعد الذي أخرجه ابن عبد البر بلفظ " إنما رخص النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة لعزبة كانت بالناس شديدة، ثم نهى عنها " فلما فتحت خيبر وسع عليهم من المال ومن السبي فناسب النهي عن المتعة لارتفاع سبب الإباحة، وكان ذلك من تمام شكر نعمة الله على التوسعة بعد الضيق، أو كانت الإباحة إنما تقع في المغازي التي يكون في المسافة إليها بعد ومشقة، وخيبر بخلاف ذلك لأنها بقرب المدينة فوقع النهي عن المتعة فيها إشارة إلى ذلك من غير تقدم إذن فيها، ثم لما عادوا إلى سفرة بعيدة المدة وهي غزاة الفتح وشقت عليهم العزوبة أذن لهم في المتعة لكن مقيدا بثلاثة أيام فقط دفعا للحاجة، ثم نهاهم بعد انقضائها عنها كما سيأتي من رواية سلمة، وهكذا يجاب عن كل سفرة ثبت فيها النهي بعد الإذن، وأما حجة الوداع فالذي يظهر أنه وقع فيها النهي مجردا إن ثبت الخبر في ذلك، لأن الصحابة حجوا فيها بنسائهم بعد أن وسع عليهم فلم يكونوا في شدة ولا طول عزبة، وإلا فمخرج حديث سبرة راوية هو من طريق ابنه الربيع عنه، وقد اختلف عليه في تعيينها؛ والحديث واحد في قصة واحدة فتعين الترجيح، والطريق التي أخرجها مسلم مصرحة بأنها في زمن الفتح أرجح فتعين المصير إليها والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ فَرَخَّصَ فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ إِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحَالِ الشَّدِيدِ وَفِي النِّسَاءِ قِلَّةٌ أَوْ نَحْوَهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَعَمْ الشرح: قوله (عن أبي جمرة) هو الضبعي بالجيم والراء، ورأيته بخط بعض من شرح هذا الكتاب بالمهملة والزاي وهو تصحيف. قوله (سمعت ابن عباس يسأل) بضم أوله. قوله (فرخص) أي فيا، وثبتت في رواية الإسماعيلي. قوله (فقال له مولى له) لم أقف على اسمه صريحا، وأظنه عكرمة. قوله (إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه) في رواية الإسماعيلي " إنما كان ذلك في الجهاد والنساء قليل". قوله (فقال ابن عباس نعم) في رواية الإسماعيلي " صدق". وعند مسلم من طريق الزهري عن خالد بن المهاجر أو ابن أبي عمرة الأنصاري " قال رجل - يعني لابن عباس، وصرح به البيهقي في روايته - إنما كانت - يعني المتعة - رخصة في أول الإسلام لمن اضطر إليها كالميتة والدم ولحم الخنزير " ويؤيده ما أخرجه الخطابي والفاكهي من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس لقد سارت بفتياك الركبان. وقال فيها الشعراء، يعني في المتعة. فقال: والله ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة لا تحل إلا للمضطر. وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن سعيد بن جبير وزاد في آخره: ألا إنما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير. وأخرجه محمد بن خلف المعروف بوكيع في كتاب " الغرر من الأخبار " بإسناد أحسن منه عن سعيد بن جبير بالقصة، لكن ليس في آخره قول ابن عباس المذكور. وفي حديث سهل بن سعد الذي أشرت إليه قريبا نحوه فهذه أخبار يقوي بعضها ببعض، وحاصلها أن المتعة إنما رخص فيها بسبب العزبة في حال السفر وهو يوافق حديث ابن مسعود الماضي في أوائل النكاح. وأخرج البيهقي من حديث أبي ذر بإسناد حسن " إنما كانت المتعة لحربنا وخوفنا " وأما ما أخرجه الترمذي من طريق محمد بن كعب عن ابن عباس قال " إنما كانت المتعة في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلد ليس له فيها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يقيم فتحفظ له متاعه " فإسناده ضعيف، وهو شاذ مخالف لما تقدم من علة إباحتها. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَا كُنَّا فِي جَيْشٍ فَأَتَانَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا فَاسْتَمْتِعُوا وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ تَوَافَقَا فَعِشْرَةُ مَا بَيْنَهُمَا ثَلَاثُ لَيَالٍ فَإِنْ أَحَبَّا أَنْ يَتَزَايَدَا أَوْ يَتَتَارَكَا تَتَارَكَا فَمَا أَدْرِي أَشَيْءٌ كَانَ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَبَيَّنَهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ الشرح: قوله (قال عمرو) هو ابن دينار، في رواية الإسماعيلي من طريق ابن أبي الوزير عن سفيان " عن عمرو بن دينار " وهو غريب من حديث ابن عيينة قل من رواه من أصحابه عنه، وإنما أخرجه البخاري مع كونه معنعنا لوروده عن عمرو بن دينار من غير طريق سفيان، نبه على ذلك الإسماعيلي، وهو كما قال قد أخرجه مسلم من طريق شعبة وروح بن القاسم، وأخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج كلهم عن عمرو. قوله (عن الحسن بن محمد) أي ابن علي بن أبي طالب، ووقع في رواية ابن جريج " الحسن بن محمد بن علي، وهو الماضي ذكره في الحديث الأول. وفي رواية شعبة المذكورة عن عمرو " سمعت الحسن بن محمد". قوله (عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع) في رواية روح بن القاسم تقديم سلمة على جابر، وقد أدركهما الحسن بن محمد جميعا لكن روايته عن جابر أشهر. قوله (كنا في جيش) لم أقف على تعيينه، لكن عند مسلم من طريق أبي العميس عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال " رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها". (تنبيه) : ضبط جيش في جميع الروايات بفتح الجيم وسكون التحتانية بعدها معجمة، وحكى الكرماني أن في بعض الروايات " حنين " بالمهملة ونونين باسم مكان الوقعة المشهورة ولم أقف عليه. قوله (فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم) لم أقف على اسمه، لكن في رواية شعبة " خرج علينا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيشبه أن يكون هو بلال. قوله (إنه قد إذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا) زاد شعبة في روايته " يعني متعة النساء " وضبط فاستمتعوا بفتح المثناة وكسرها بلفظ الأمر وبلفظ الفعل الماضي. وقد أخرج مسلم حديث جابر من طرق أخرى، منها عن أبي نضرة عن جابر أنه سئل عن المتعة فقال " فعلناها مع سول الله صلى الله عليه وسلم " ومن طريق عطاء عن جابر " استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر " وأخرج عن محمد ابن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج " أخبرني أبو الزبير سمعت جابرا " نحوه وزاد " حتى نهى عنها عمر في شأن عمرو بن حريث " وقصة عمرو بن حريث أخرجها عبد الرزاق في مصنفه بهذا الإسناد عن جابر قال " قدم عمرو ابن حريث الكوفة فاستمتع بمولاة فأتى بها عمرو حبلى، فسأله فاعترف، قال فذلك حين نهى عنها عمر " قال البيهقي في رواية سلمة بن الأكوع التي حكيناها عن تخريج مسلم " ثم نهى عنها " ضبطناه " نهى " بفتح النون ورأيته في رواية معتمدة " نها " بالألف قال: فإن قيل بل هي بضم النون والمراد بالناهي في حديث سلمة عمر كما في حديث جابر قلنا هو محتمل، لكن ثبت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها في حديث الربيع بن سبرة ابن معبد عن أبيه بعد الإذن فيه، ولم نجد عنه الإذن فيه بعد النهي عنه، فنهى عمر موافق لنهيه صلى الله عليه وسلم. قلت: وتمامه أن يقال: لعل جابرا ومن نقل عنه استمرارهم على ذلك بعده صلى الله عليه وسلم إلى أن نهى عنها عمر لم يبلغهم النهي. ومما يستفاد أيضا أن عمر لم ينه عنها اجتهادا وإنما نهى عنها مستندا إلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح عنه بذلك فيما أخرجه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال " لما ولي عمر خطب فقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثا ثم حرمها " وأخرج ابن المنذر والبيهقي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال " صعد عمر المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة بعد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها"، وفي حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه في صحيح ابن حبان " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث " وله شاهد صحيح عن سعيد بن المسيب أخرجه البيهقي. قوله (وقال ابن أبي ذئب إلخ) وصله الطبراني والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عن ابن أبي ذئب. قوله (أيما رجل وامرأة توافقا فعشرة ما بينهما ثلاث ليال) وقع في رواية المستملي " بعشرة " بالموحدة المكسورة بدل الفاء المفتوحة، وبالفاء أصح، وهي رواية الإسماعيلي وغيره. والمعنى أن إطلاق الأجل محمول على التقييد بثلاثة أيام بلياليهن. قوله (فإن أحبا) أي بعد انقضاء الثلاث (أن يتزايدا) أي في المدة؛ يعني تزايدا. ووقع في رواية الإسماعيلي التصريح بذلك، وكذا في قوله أن يتتاركا أي يتفارقا تتاركا. وفي رواية أبي نعيم " أن يتناقضا تناقضا " والمراد به التفارق. قوله (فما أدري أشيء كان لنا خاصة أم للناس عامة) ووقع في حديث أبي ذر التصريح بالاختصاص أخرجه البيهقي عنه قال " إنما أحلت لنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متعة النساء ثلاثة أيام، ثم نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله (وقد بينه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منسوخ) يريد بذلك تصريح علي عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها بعد الإذن فيها، وقد بسطناه في الحد الأول. وأخرج عبد الرزاق من وجه آخر عن علي قال " نسخ رمضان كل صوم، ونسخ المتعة الطلاق والعدة والميراث " وقد اختلف السلف في نكاح المتعة، قال ابن المنذر: جاء عن الأوائل الرخصة فيها، ولا أعلم اليوم أحدا يجيزها إلا بعض الرافضة، ولا معنى لقول يخالف كتاب الله وسنة رسوله. وقال عياض: ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض. وأما ابن عباس فروي عنه أنه أباحها، وروي عنه أنه رجع عن ذلك. قال ابن بطال: روى أهل مكة واليمن عن ابن عباس إباحة المتعة، وروي عنه الرجوع بأسانيد ضعيفة وإجازة المتعة عنه أصح، وهو مذهب الشيعة. قال: وأجمعوا على أنه متى وقع الآن أبطل سواء كان قبل الدخول أم بعده، إلا قول زفر إنه جعلها كالشروط الفاسدة، ويرده قوله صلى الله عليه وسلم "فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها". قلت: وهو في حديث الربيع بن سبرة عن أبيه عند مسلم. وقال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته فقد صح عن علي أنها نسخت. ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال " هي الزنا بعينه " قال الخطابي: ويحكى عن ابن جريج جوازها ا هـ. وقد نقل أبو عوانة في صحيحه عن ابن جريج أنه رجع عنها بعد أن روى بالبصرة في إباحتها ثمانية عشر حديثا. وقال ابن دقيق العيد: ما حكاه بعض الحنفية عن مالك من الجواز خطأ، فقد بالغ المالكية في منع النكاح المؤقت حتى أبطلوا توقيت الحل بسببه فقالوا: لو علق على وقت لا بد من مجيئه وقع الطلاق الآن لأنه توقيت للحل فيكون في معنى نكاح المتعة. قال عياض: وأجمعوا على أن شرط البطلان التصريح بالشرط، فلو نوى عند العقد أن يفارق بعد مدة صح نكاحه، إلا الأوزاعي فأبطله. واختلفوا هل يحد ناكح المتعة أو يعزر؟ على قولين مأخذهما أن الاتفاق بعد الخلاف هل يرفع الخلاف المتقدم. وقال القرطبي: الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض. وجزم جماعة من الأئمة بتفرد ابن عباس بإباحتها فهي من المسألة المشهورة وهي ندرة المخالف، ولكن قال ابن عبد البر: أصحاب ابن عباس من أهل مكة واليمن على إباحتها، ثم اتفق فقهاء الأمصار على تحريمها. وقال ابن حزم: ثبت على إباحتها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ومعاوية وأبو سعيد وابن عباس وسلمة ومعبد ابنا أمية بن خلف وجابر وعمرو ابن حريث ورواه جابر عن جميع الصحابة مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إلى قرب آخر خلافة عمر، قال: ومن التابعين طاوس وسعيد بن جبير وعطاء وسائر فقهاء مكة. قلت: وفي جميع ما أطلقه نظر، أما ابن مسعود فمستنده فيه الحديث الماضي في أوائل النكاح، وقد بينت فيه ما نقله الإسماعيلي من الزيادة فيه المصرحة عنه بالتحريم، وقد أخرجه أبو عوانة من طريق أبي معاوية عن إسماعيلي بن أبي خالد وفي آخره " ففعلنا ثم ترك ذلك". وأما معاوية فأخرجه عبد الرزاق من طريق صفوان بن يعلى بن أمية " أخبرني يعلى أن معاوية استمتع بامرأة بالطائف " وإسناده صحيح، لكن في رواية أبي الزبير عن جابر عند عبد الرزاق أيضا أن ذلك كان قديما ولفظه " استمتع معاوية مقدمه الطائف بمولاة لبني الحضرمي يقال لها معانة، قال جابر: ثم عاشت معانة إلى خلافة معاوية فكان يرسل إليها بجائزة كل عام " وقد كان معاوية متبعا لعمر مقتديا به فلا يشك أنه عمل بقوله بعد النهي، ومن ثم قال الطحاوي: خطب عمر فنهى عن المتعة، ونقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه ذلك منكر، وفي هذا دليل على متابعتهم له على ما نهى عنه. وأما أبو سعيد فأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أن عطاء قال " أخبرني من شئت عن أبي سعيد قال: لقد كان أحدنا يستمتع بملء القدح سويقا " وهذا - مع كونه ضعيفا للجهل بأحد رواته - ليس فيه التصريح بأنه كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وأما ابن عباس فتقدم النقل عنه والاختلاف هل رجع أو لا. وأما سلمة ومعبد فقصتهما واحدة اختلف فيها هل وقعت لهذا أو لهذا، فروى عبد الرزاق بسند صحيح عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال " لم يرع عمر إلا أم أراكة قد خرجت حبلى، فسألها عمر فقالت: استمتع بي سلمة بن أمية " وأخرج من طريق أبي الزبير عن طاوس فسماه معبد بن أمية. وأما جابر فمستنده قوله " فعلناها " وقد بينته قبل، ووقع في رواية أبي نصرة عن جابر عند مسلم " فنهانا عمر فلم نفعله بعد " فإن كان قوله فعلنا يعم جميع الصحابة فقوله ثم لم نعد يعم جميع الصحابة فيكون إجماعا، وقد ظهر أن مستنده الأحاديث الصحيحة التي بيناها. وأما عمرو بن حريث وكذا قوله رواه جابر عن جميع الصحابة فعجيب، وإنما قال جابر " فعلناها " وذلك لا يقتضي تعميم جميع الصحابة بل يصدق على فعل نفسه وحده، وأما ما ذكره عن التابعين فهو عند عبد الرزاق عنهم بأسانيد صحيحة، وقد ثبت عن جابر عند مسلم " فعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهانا عمر فلم نعد لها " فهذا يرد عده جابرا فيمن ثبت على تحليلها، وقد اعترف ابن حزم مع ذلك بتحريمها لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم "إنها حرام إلى يوم القيامة " قال فأمنا بهذا القول نسخ التحريم. والله أعلم *3* الشرح: قوله (باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح) قال ابن المنير في الحاشية، من لطائف البخاري أنه لما علم الخصوصية في قصة الواهبة استنبط من الحديث ما لا خصوصية فيه وهو جواز عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح رغبة في صلاحه فيجوز لها ذلك، وإذا رغب فيها تزوجها بشرطه. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ أَنَسٍ وَعِنْدَهُ ابْنَةٌ لَهُ قَالَ أَنَسٌ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْرِضُ عَلَيْهِ نَفْسَهَا قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَكَ بِي حَاجَةٌ فَقَالَتْ بِنْتُ أَنَسٍ مَا أَقَلَّ حَيَاءَهَا وَا سَوْأَتَاهْ وَا سَوْأَتَاهْ قَالَ هِيَ خَيْرٌ مِنْكِ رَغِبَتْ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا الشرح: قوله (حدثنا مرحوم) زاد أبو ذر " ابن عبد العزيز بن مهران " وهو بصري مولى آل أبي سفيان ثقة مات سنة سبع وثمانين ومائة، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث، وقد أورده عنه في كتاب الأدب أيضا، وذكر البزار أنه تفرد به عن ثابت. قوله (وعنده ابنة له) لم أقف على اسمها وأظنها أمينة بالتصغير. قوله (جاءت امرأة) لم أقف على تعينها، وأشبه من رأيت بقصتها ممن تقدم ذكر اسمهن في الواهبات ليلى بنت قيس بن الخطيم، ويظهر لي أن صاحبة هذه القصة غير التي في حديث سهل. قوله (واسوأتاه) أصل السوءة - وهي بفتح المهملة وسكون الواو بعدها همزة - الفعلة القبيحة، وتطلق على الفرج، والمراد هنا الأول، والألف للندبة والهاء للسكت. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَوِّجْنِيهَا فَقَالَ مَا عِنْدَكَ قَالَ مَا عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ اذْهَبْ فَالْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ شَيْئًا وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ وَلَكِنْ هَذَا إِزَارِي وَلَهَا نِصْفُهُ قَالَ سَهْلٌ وَمَا لَهُ رِدَاءٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إِنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى إِذَا طَالَ مَجْلِسُهُ قَامَ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ أَوْ دُعِيَ لَهُ فَقَالَ لَهُ مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا لِسُوَرٍ يُعَدِّدُهَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْلَكْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ الشرح: ذكر المصنف حديث سهل بن سعد في قصة الواهبة مطولا، وسيأتي شرحه بعد ستة عشر بابا، وفي الحديثين جواز عرض المرأة نفسها على الرجل وتعريفه رغبتها فيه وأن لا غضاضة عليها في ذلك، وأن الذي تعرض المرأة نفسها عليه بالاختيار لكن لا ينبغي أن يصرح لها بالرد بل يكفي السكوت. وقال المهلب: فيه أن على الرجل أن ينكحها إلا إذا وجد في نفسه رغبة فيها، ولذلك صعد النظر فيها وصوبه انتهى. وليس في القصة دلالة لما ذكره قال: وفيه جواز سكوت العالم ومن سئل حاجة إذا لم يرد الإسعاف، وأن ذلك ألين في صرف السائل وأأدب من الرد بالقول *3* الشرح: قوله (باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير) أورد عرض البنت في الحديث الأول، وعرض الأخت في الحديث الثاني. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُحَدِّثُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حِينَ تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَفْصَةَ فَقَالَ سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ لَقِيَنِي فَقَالَ قَدْ بَدَا لِي أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا قَالَ عُمَرُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ فَقُلْتُ إِنْ شِئْتَ زَوَّجْتُكَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا وَكُنْتُ أَوْجَدَ عَلَيْهِ مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ فَلَبِثْتُ لَيَالِيَ ثُمَّ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَحْتُهَا إِيَّاهُ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أَرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا قَالَ عُمَرُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ تَرَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلْتُهَا الشرح: قوله (حين تأيمت) بهمزة مفتوحة وتحتانية ثقيلة أي صارت أيما، وهي التي يموت زوجها أو تبين منه وتنقضي عدتها، وأكثر ما تطلق على من مات زوجها. وقال ابن بطال: العرب تطلق على كل امرأة لا زوج لها وكل رجل لا امرأة له أيما، زاد في " المشارق " وإن كان بكرا. وسيأتي مزيدا لهذا في " باب لا ينكح الأب وغيره البكر ولا الثيب إلا برضاها". قوله (من خنيس) بخاء معجمة ونون وسين مهملة مصغر. قوله (ابن حذافة) عند أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب وهي رواية يونس عن الزهري " ابن حذافة أو حذيفة " والصواب حذافة، وهو أخو عبد الله بن حذافة الذي تقدم ذكره في المغازي. ومن الرواة من فتح أول خنيس وكسر ثانيه، والأول هو المشهور بالتصغير، وعند معمر كالأول لكن بحاء مهملة وموحدة وشين معجمة. وقال الدار قطني: اختلف على عبد الرزاق فروى عنه علي الصواب وروى عنه بالشك. قوله (وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) زاد في رواية معمر كما سيأتي بعد أبواب " من أهل بدر". قوله (فتوفي بالمدينة) قالوا مات بعد غزوة أحد من جراحة أصابته بها، وقيل بل بعد بدر ولعله أولى، فإنهم قالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد خمسة وعشرين شهرا من الهجرة. وفي رواية بعد ثلاثين شهرا. وفي رواية بعد عشرين شهرا، وكانت أحد بعد بدر بأكثر من ثلاثين شهرا، ولكنه يصح على قول من قال بعد ثلاثين على إلغاء الكسر، وجزم ابن سعد بأنه مات عقب قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من بدر وبه جزم ابن سيد الناس، وهو قول ابن عبد البر أنه شهد أحدا ومات من جراحة بها، وكانت حفصة أسن من أخيها عبد الله فإنها ولدت قبل البعثة بخمس سنين وعبد الله ولد بعد البعثة بثلاث أو أربع. قوله (فقال عمر بن الخطاب) أعاد ذلك لوقوع الفصل، وإلا فقوله أولا " إن عمر بن الخطاب " لا بد له من تقدير، قال ووقع في رواية معمر عند النسائي وأحمد عن ابن عمر عن عمر قال " تأيمت حفصة". قوله (أتيت عثمان فعرضت عليه حفصة؟ فقال: سأنظر في أمري، إلى أن قال قد بدا لي أن لا أتزوج) هذا هو الصحيح، ووقع في رواية ربعي بن حراش عن عثمان عند الطبري وصححه هو والحاكم " أن عثمان خطب إلى عمر بنته فرده، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راح إليه عمر قال: يا عمر ألا أدلك على ختن خير من عثمان، وأدل عثمان على ختن خير منك؟ قال: نعم يا نبي الله. قال: تزوجني بنتك وأزوج عثمان بنتي " قال الحافظ الضياء: إسناده لا بأس به، لكن في الصحيح أن عمر عرض على عثمان حفصة فرد عليه " قد بدا لي أن لا أتزوج". قلت: أخرج ابن سعد من مرسل الحسن نحو حديث ربعي، ومن مرسل سعيد بن المسيب أتم منه، وزاد في آخره " فخار الله لهما جميعا". ويحتمل في الجمع بينهما أن يكون عثمان خطب أولا إلى عمر فرده كما في رواية ربعي، وسبب رده يحتمل أن يكون من جهتها وهي أنها لم ترغب في التزوج عن قرب من وفاة زوجها، ويحتمل غير ذلك من الأسباب التي لا غضاضة فيها على عثمان في رد عمر له، ثم لما ارتفع السبب بادر عمر فعرضها على عثمان رعاية لخاطره كما في حديث الباب، ولعل عثمان بلغه ما بلغ أبا بكر من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها فصنع كما صنع من ترك إفشاء ذلك، ورد على عمر بجميل. ووقع في رواية ابن سعد " فقال عثمان: مالي في النساء من حاجة " وذكر ابن سعد عن الواقدي بسند له " أن عمر عرض حفصة على عثمان حين توفيت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعثمان يومئذ يريد أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا مما يؤيد أن موت خنيس كان بعد بدر فإن رقية ماتت ليالي بدر وتخلف عثمان عن بدر لتمريضها. وقد أخرج إسحاق في مسنده وابن سعد من مرسل سعيد بن المسيب قال " تأيمت حفصة من زوجها وتأيم عثمان من رقية، فمر عمر بعثمان وهو حزين فقال: هل لك في حفصة؟ فقد انقضت عدتها من فلان " واستشكل أيضا بأنه لو كان مات بعد أحد للزم أن لا تنقضي عدتها إلا في سنة أربع، وأجيب باحتمال أن تكون وضعت عقب وفاته ولو سقطا فحلت. قوله (سأنظر في أمري) أي أتفكر، ويستعمل النظر أيضا بمعنى الرأفة لكن تعديته باللام، وبمعنى الرؤية وهو الأصل ويعدى بإلى. وقد يأتي بغير صلة وهو بمعنى الانتظار. قوله (قال عمر فلقيت أبا بكر) هذا يشعر بأنه عقب رد عثمان له بعرضها على أبي بكر. قوله (فصمت أبو بكر) أي سكت وزنا ومعنى، وقوله بعد ذلك " فلم يرجع إلي شيئا " تأكيد لرفع المجاز، لاحتمال أن يظن أنه صمت زمانا ثم تكلم وهو بفتح الياء من يرجع. قوله (وكنت أوجد عليه) أي أشد موجدة أي غضبا على أبى بكر من غضبي على عثمان، وذلك لأمرين: أحدهما ما كان بينهما من أكيد المودة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بينهما، وأما عثمان فلعله كان تقدم من عمر رده فلم يعتب عليه حيث لم يجبه لما سبق منه في حقه، والثاني لكون عثمان أجابه أولا ثم اعتذر له ثانيا، ولكون أبي بكر لم يعد عليه جوابا. ووقع في رواية ابن سعد " فغضب على أبي بكر وقال فيها: كنت أشد غضبا حين سكت مني على عثمان". قوله (لقد وجدت علي) في رواية الكشميهني " لعلك وجدت " وهي أوجه. قوله (فلم أرجع) بكسر الجيم أي أعد عليك الجواب. قوله (إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها) في رواية ابن سعد " فقال أبو بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان ذكر منها شيئا وكان سرا. قوله (فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية ابن سعد " وكرهت أن أفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله (ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها) في رواية معمر المذكورة " نكحتها". وفيه أنه لولا هذا العذر لقبلها، فيستفاد منه عذره في كونه لم يقل كما قال عثمان قد بدا لي أن لا أتزوج، وفيه فضل كتمان السر فإذا أظهره صاحبه ارتفع الحرج عمن سمعه. وفيه عتاب الرجل لأخيه وعتبة عليه واعتذاره إليه وقد جبلت الطباع البشرية على ذلك، ويحتمل أن يكون سبب كتمان أبي بكر ذلك أنه خشي أن يبدو لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يتزوجها فيقع في قلب عمر انكسار، ولعل اطلاع أبي بكر على أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد خطبة حفصة كان بإخباره له صلى الله عليه وسلم إما على سبيل الاستشارة وإما لأنه كان لا يكتم عنه شيئا مما يريده حتى ولا ما في العادة عليه غضاضة وهو كون ابنته عائشة عنده، ولم يمنعه ذلك من اطلاعه على ما يريد لوثوقه بإيثاره إياه على نفسه، ولهذا اطلع أبو بكر على ذلك قبل اطلاع عمر الذي يقع الكلام معه في الخطبة. ويؤخذ منه أن الصغير لا ينبغي له أن يخطب امرأة أراد الكبير أن يتزوجها ولو لم تقع الخطبة فضلا عن الركون. وفيه الرخصة في تزويج من عرض النبي صلى الله عليه وسلم بخطبتها أو أراد أن يتزوجها لقول الصديق: لو تركها لقبلتها. وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه، وأنه لا استحياء في ذلك. وفيه أنه لا بأس بعرضها عليه ولو كان متزوجا لأن أبا بكر كان حينئذ متزوجا. وفيه أن من حلف لا يفشي سر فلان فأفشى فلان سر نفسه ثم تحدث به الحالف لا يحنث لأن صاحب السر هو الذي أفشاه فلم يكن الإفشاء من قبل الحالف، وهذا بخلاف ما لو حدث واحد آخر بشيء واستحلفه ليكتمه فلقيه رجل فذكر له أن صاحب الحديث حدثه بمثل ما حدثه به فأظهر التعجب وقال ما ظننت أنه حدث بذلك غيري فإن هذا يحنث، لأن تحليفه وقع على أنه يكتم أنه حدثه وقد أفشاه. وفيه أن الأب يخطب إليه بنته الثيب كما يخطب إليه البكر ولا تخطب إلى نفسها كذا قال ابن بطال، وقوله لا تخطب إلى نفسها ليس في الخبر ما يدل عليه. قال وفيه أنه يزوج بنته الثيب من غير أن يستأمرها إذا علم أنها لا تكره ذلك وكان الخاطب كفوا لها، وليس في الحديث تصريح بالنفي المذكور إلا أنه يؤخذ من غيره، وقد ترجم له النسائي " أنكاح الرجل بنته الكبيرة " فإن أراد بالرضا لم يخالف القواعد، وأن أراد بالإخبار فقد يمنع، والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّكَ نَاكِحٌ دُرَّةَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لَوْ لَمْ أَنْكِحْ أُمَّ سَلَمَةَ مَا حَلَّتْ لِي إِنَّ أَبَاهَا أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ الشرح: ذكر المصنف طرفا من حديث أم حبيبة في قصة بنت أم سلمة، وقد تقدم شرحه قريبا ولم يذكر فيه هنا مقصود الترجمة استغناء بالإشارة إليه وهو قولها " انكح أختي بنت أبي سفيان " والله أعلم
|